أحاديث البكاء على الموتى
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في أحاديث عديدة ما يفيد تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ، منها ما أخرجه البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن حفصة بكت على عمر فقال : مهلاً يا بنية ، ألم تعلمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : ( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) ؟! ، وفي رواية : لما طعن عمر أغمي عليه فصيح عليه ، فلما أفاق قال : أما علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي ) .
و لمسلم عن أنس أن عمر بن الخطاب لما طُعِن عولت عليه حفصة فقال : يا حفصة ، أما سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : ( المعول عليه يعذب ) ، وعول عليه صهيب فقال عمر يا صهيب : أما علمت أن المعول عليه يعذب .
ولهما أيضاً عن عمر مرفوعاً : ( الميت يعذب في قبره ما نيح عليه ).
وهذه المسألة – وهي مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله – من المسائل التي وقع فيها النزاع بين السلف ، ابتداءً من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أهل العلم ، فأثبت ذلك الجمهور وإن كانوا يختلفون في تأويل هذه الأحاديث وتحديد معنى العذاب وموجبه على أقوال معروفة سنأتي على ذكر شيء منها وما هو الأقرب إلى الصواب .
وأنكر ذلك البعض لاعتقادهم أنه يلزم منه أن يعذب الإنسان بذنب غيره ، وهو مخالف لقانون العقاب والجزاء الذي بينه الله جل وعلا في قوله : {ولا تزر وازرة وزر أخرى }( فاطر 18).
ولكن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لم يكن ليخرج أبداً عن دائرة الخلاف السائغ في مسائل الاجتهاد التي اختلف فيها الناس ، ولا يزالون يختلفون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وهم فيها بين مجتهد مصيب له أجران ومخطئ له أجر واحد .
فقد وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- كاختلافهم في قطع اللينة وتركها ، واختلافهم في الصلاة في بني قريظة ونحو ذلك ، بل اختلفوا حتى في بعض المسائل العلمية العقدية كسماع الميت صوت الحي ، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم- ربه قبل الموت ، ومنها هذه المسألة ، ولم يكن ذلك الخلاف ليؤثر أبداً على الاجتماع والألفة فيما بينهم ، ولا ليوجب الفرقة أو التنازع ، أو الطعن في الآخر .
وإنما قدمنا بهذه المقدمة من أجل أن يوضع الأمر في نصابه الصحيح ، وأن تناقش هذه المسائل والأحاديث ضمن هذا الإطار ، ولأن البعض ممن يصطاد في الماء العكر ، أخذ يتصيد مثل هذا الخلاف ، ويجعل من هذه الأحاديث فرصة لتكذيب بعض الصحابة ، واتهامهم بالدس والاختلاق ونهي الناس عن أمور مشروعة ومفطورة في النفس ، ثم يرد بموجب ذلك أحاديث صحيحة ثابتة لا لشيء إلا لأنها لا تتماشى مع مذهبه وبدعته ، وأبرز مثال على ذلك هذه الأحاديث التي تفيد تعذيب الميت ببكاء أهله ، حيث استغلها بعضهم استغلالاً خبيثاً فادعوا أنها تحرم البكاء على الميت ، وأن حزن الإنسان عند موت أحبابه وبكائه عليهم مسألة نفسية، وهي من مستلزمات العاطفة البشرية ، ومقتضيات الرحمة والشفقة الإنسانية ، وقد أباح الإسلام البكاء ، والنبي - عليه الصلاة والسلام- نفسه ثبت عنه البكاء في أكثر من موطن ، ومع هذا أثبت البخاري و مسلم مثل هذه الأحاديث التي تنهى عن البكاء ، بل وتثبت تعذيب الميت ببكاء غيره عليه ، من غير أي ذنب ارتكبه .
واتهموا عمر رضي الله عنه بأنه أول من أحدث الخلاف في المسألة ، وأنه مصدر هذه الروايات جميعاً ، ومن أجل ذلك كان ينهى عن البكاء نهيا شديدا ، ويضرب فيه بالعصا ويرمى بالحجارة ويحثى بالتراب الذين يبكون على أمواتهم - كما أثبت ذلك البخاري - مهما كان الميت عظيما ومكرما ، كما زعموا أن الصحابة أنفسهم وقفوا من هذه الروايات موقف المعارض والمنكر لها لأنها تتعارض مع صريح القرآن .
ولمناقشة ما قيل حول هذه الأحاديث سيكون الكلام دائراً حول عدة محاور أساسية :
هل انفرد عمر وابنه رضي الله عنهما برواية هذه الأحاديث
أ
ما الادعاء بأن هذه الأحاديث انفرد بها عمر وابنه رضي الله عنهما فهو ادعاء غير صحيح، تكذبه المصادر والروايات الأخرى الثابتة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد صحيحة ، ومن وجوه عديدة حتى قال السيوطي رحمه الله في كتابه " الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة " إنه متواتر ، وتبعه الكتاني في " نظم المتناثر في الحديث المتواتر " وذكر عدد من روي عنهم الحديث من الصحابة وهم أحد عشر صحابياً .
فقد ثبت من رواية أبي موسى الأشعري في مسند أحمد وسنن ابن ماجه وغيرهما ولفظه : ( الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالوا : وا عضداه ، وا كاسياه ، وا ناصراه ، وا جبلاه ، ونحو هذا ، يتعتع ويقال : أنت كذلك ؟ أنت كذلك ؟ ) .
وله شاهد عند البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي وا جبلاه ، وا كذا ، وا كذا ، تعَدِّدُ عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي آنت كذلك ؟ فلما مات لم تبك عليه .
وثبت من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه في مسند أحمد وسنن النسائي عن محمد بن سيرين قال ذُكِر عند عمران بن حصين ( الميت يعذب ببكاء الحي ) ، فقال عمران : قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .
وثبت من رواية سمرة بن جندب عند أحمد بلفظ : ( الميت يعذب بما نيح عليه ) ، ومن رواية المغيرة بن شعبة في الصحيحين وغيرهما بلفظ : ( من نيح عليه يعذب بما نيح عليه ) .
ومن رواية أبي هريرة عند أبي يعلى بلفظ : ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي ) .
إلى غير تلك الروايات التي تنفي أي احتمال للخطأ أو النسيان على عمر وابنه رضي الله عنهما، وتؤكد على أن هذا الحديث كان من الشهرة والذيوع بحيث توافر كل هؤلاء الصحابة على نقله ، فلا مجال إذاً للطعن في صحته ، بدعوى انفراد عمر به .
موقف عائشة من الحديث
وأما الزعم بأن الصحابة رضي الله عنهم وقفوا من الحديث موقف المعارض والمنكر فغير صحيح ، فإن عمر رضي الله عنه قاله في جمع منهم من غير أن ينكره عليه أحد ، والمعروف إنما هو موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، واستدراكها على ابن عمر هذا الحديث ، وقد أثبته البخاري و مسلم ،ولا يلزم من إنكارها واستدراكها أن يكون الصواب معها ، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد لا يكون بلغها الخبر ، ولو أنها حكت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- شيئا صريحاً في مخالفته ونفيه لكان قولها مقبولاً ، ولو أن عبد الله بن عمر نقله وحده لتوهم عليه الغلط - كما قالت – فكيف وقد نقله جماعة من الصحابة ، ونطق به عمر رضي الله عنه في جمع منهم من غير أي نكير .
كما أن التأويلات التي ردت عائشة الحديث بسببها متخالفة وغير متفقة ، فمرة ترده بناء على أن ابن عمر غلط أو نسي ، وأن اللفظ الصحيح هو : ( إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن ) وعلى هذا يكون خاصا ببعض الموتى .
ومرة ترده بناء على أنه سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه فقالت : " يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكى عليها فقال : ( إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) وعليه يكون خاصاً بشخص معين .
ومرة ترده بناء على أن ذلك مختص بالكافر وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره كما في قولها في رواية ابن عباس : " رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ) ثم قالت حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى }.
فأثبتت ما نفته في الروايتين السابقتين ، وحتى على هذه الرواية لا يوجد وجه للاعتراض لأن نفس الإشكال الذي أوردته على رواية عمر يرد على روايتها فالله سبحانه لا يعذب أحداً بذنب غيره الذي لا تسبب له فيه سواء أكان مؤمناً أم كافراً .
أضف إلى ذلك أنها أثبتت في الرواية أن الله يزيد الكافر عذاباً ، وإذا جاز أن يزيده عذابا ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداءً ببكاء أهله .
والمقصود أن هذه التأويلات المختلفة عن عائشة رضي الله عنها فيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر بل بما استشعرته من معارضة القرآن ، فإذا أمكن حمل الأحاديث على محمل صحيح ، والتوفيق بينها وبين الآية ، انتفت هذه المعارضة ، وأمكن الجمع ، ولم يعد هناك أي وجه لإنكارها ، وهذا هو ما فعله أهل العلم الذين وجهوا هذه الروايات بتوجيهات تتباين قرباً وبعداً وقوة وضعفاً ، إلا أنها جميعاً تتفق على إمكانية الجمع وعدم وجود المنافاة .
قال القرطبي رحمه الله : " إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد ، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح " أهـ .
معنى الحديث
وأما معنى الحديث فقد ذكر أهل العلم عدة تأويلات في معنى العذاب وسببه ، في محاولة منهم للجمع بين الأحاديث الواردة في هذا الباب، وبين قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ونشير هنا إلى أهم هذه الأقوال باختصار :
أولها: مذهب البخاري وهو أن المراد من كان النوح من سنته وطريقته ، فكان أسوة سيئة لأهله أو عرف أن لهم عادة بفعل ذلك ، فأهمل نهيهم عنه ، واستدل على ذلك بأدلة ذكرها في ترجمة الباب منها قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا }(التحريم 6) ، وحديث : ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ) ، وحديث : ( لا تُقتل نفس ظلمـًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، وذلك لأنه أول من سن القتل ) ، فهذا في الحقيقة إنما يعاقب بتفريطه وذنبه هو لا بذنب أهله لأنه قصر في تربية أهله ، وأهمل نهيهم عن مثل هذه الأمور .
ومما يؤيد هذا التأويل أن من العرب في الجاهلية من كان يوصي أهله أن يندبوه وينوحوا عليه بعد موته كما قال طرفة :
إذا مت فانعيني بما أنا أهلـه*********** وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
ثانيها : أن معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه به أهله ، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعـًا : ( الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة : واعضداه ، واناصراه ، واكاسياه ، جبذ الميت وقيل له : أنت عضدها ؟ ، أنت ناصرها ؟ ، أنت كاسيها ؟ ) .
ثالثها أن المراد بالعذاب هو العذاب بمعناه اللغوي وهو مطلق الألم ، فالميت يتألم بما يرى من جزع أهله ، وما يسمع من بكائهم عليه ، لأن الحديث لم يقل إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه وإنما قال " يعذب " ، والعذاب أعم من العقاب ، فإن العذاب هو الألم ، وليس كل من تألم بسببٍ كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب ، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : ( السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ) فسمى السفر عذاباً مع أنه لم يكن عقاباً على ذنب ، والإنسان قد يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها مثل الأصوات الهائلة ، والصور القبيحة ، والروائح المنتنة ، فهو يتعذب ويتألم بالسماع والرؤية والشم ، مع أنه ليس عملاً له يعاقب عليه ، فعلى هذا لا ينكر أن يتألم الميت بالنياحة ، وإن لم تكن النياحة عملاً له يعاقب هو عليه ، وإنما هي من عمل غيره .
وهذا هو أصح الأوجه في تفسير الحديث ، وهو الذي يتفق مع ظاهره ، وهو اختيار الطبري و ابن تيمية و ابن القيم وغيرهم .
قال الحافظ بعد نقل هذه التوجيهات وغيرها : " ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات ، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلاً : من كانت طريقته النوح ، فمشى أهله على طريقته ، أو بالغ فأوصاهم بذلك عُذِّب بصنعه ، ومن كان يَعْرِف من أهله النياحة ، فأهمل نهيهم عنها ، فإن كان راضيـًا بذلك التحق بالأول ، وإن كان غير راضٍ عُذِّب بالتوبيخ كيف أهمل النهي ؟ ومن سَلِم من ذلك كله ، واحتاط ، فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك ، كان تعذيبه تألمه بما يراه من مخالفة أمره ، وإقدامهم على معصية ربهم ، والله تعالى أعلم بالصواب " أهـ
وبذلك يتضح أن هذه الأحاديث لا تعارِض القرآن في تقرير مبدأ الحساب والجزاء ، مادام لها أكثر من وجه صحيح لتأويلها .
موقف عمر من البكاء على الموتى
بقي أن نعرف حقيقة موقف عمر رضي الله عنه من البكاء ، وهل بالفعل كان ينهى الناس عما هو مشروع ومغروس في فطرهم ، وما هو من مستلزمات العاطفة البشرية والرحمة الإنسانية .
فقدأثبت البخاري في حديث عبد الله بن عمر أن عمر رضي الله عنه كان يضرب فيه بالعصا ، ويرمى بالحجارة ، ويحثي بالتراب ، وثبت عنه أنه أخرج أخت أبي بكر حين ناحت ، وفي رواية ابن سعد أنه أمر من يعلوها بالدرة .
ولكن ما هو هذا البكاء الذي كان عمر يضرب عليه ؟ ، هل هو البكاء المجرد الذي لا يملك الإنسان دفعه عن نفسه أم هو بكاء مخصوص ، إن حديث ابن عمر نفسه - والذي ينقل فيه أن أباه كان يضرب فيه بالعصا ، ويرمى بالحجارة ، ويحثى بالتراب – يؤكد أن المقصود إنما هو نوع معين من البكاء حيث قال ابن عمر : اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال : قد قضى ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم- بكوا ، فقال : ( ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم ، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ) ، ثم قال : " وكان عمر رضي الله عنه يضرب فيه بالعصا ويرمى بالحجارة ويحثى بالتراب .
فكيف يُثْبِت الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بكى ، والصحابة بكوا لبكائه ، وقال لهم : إن دمع العين من دون تسخط باللسان لا شيء فيه ، ثم يقرر بعد ذلك أن الميت يُعَذَّب بهذا البكاء ، لا شك أن ذلك لا يستقيم عند أصحاب الفهم السليم ، إلا أن يقال إن البكاء الذي يعذب الميت بسببه والذي كان عمر يضرب عليه هو بكاء من نوع آخر ، وهو ما كان من قبيل النياحة ، ورفع الصوت والصراخ والصياح ، وتعديد مآثر الميت ونحو ذلك ، لما فيه من تجديد الحزن ، وتسخط القضاء ، وعدم الصبر ، والنساء أسرع في ذلك لغلبة العاطفة عندهن ، وهذا النوع من البكاء هو الذي يعذب به الميت كما ذكر ذلك من وجهوا أحاديث الباب ، قال الإمام ابن عبد البر في الاستذكار (3/71) : " كل حديث أتى فيه ذكر البكاء فالمراد به النياحة عند جماعة العلماء " .
ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى عن النياحة ، ولعن النائحة والمستمعة ، كما نهى عن شق الجيوب ، ولطم الخدود ، والدعاء بدعوى الجاهلية ، وبرء من الصالقة والحالقة والشاقة ، وقال : ( ثلاث من أفعال الجاهلية : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الموتى ، والاستسقاء بالأنواء ) بل أطلق عليها لفظ الكفر فقال : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت ) ، وعد العلماء ذلك من كبائر الذنوب ، فكيف يُنكَر على عمر أن ينهى عن أمر من أمور الجاهلية ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، وأن يعاقب على فعله ، وهو الغيور على محارم الله ، وفي موقع الولاية والمسؤولية .
ولذلك أورد الإمام البخاري رحمه الله حادثة إخراجه لأخت أبي بكر أم فروة حين ناحت تحت باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة .
ولماذا يُنكر على عمر مثل هذا الموقف وله في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم الأسوة ، فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل بن حارثة و جعفر و بن رواحة جلس يعرف فيه الحزن ، وأنا أنظر من شق الباب ، فأتاه رجل فقال : إن نساء جعفر وذكر بكاءهن ، فأمره أن ينهاهن ، فذهب ثم أتاه الثانية ، لم يطعنه ، فقال : انههن ، فأتاه الثالثة ، قال : والله غلبننا يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فاحث في أفواههن التراب ) .
وفي حديث جابر بن عتيك الذي أخرجه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( فإذا وجبت فلا تبكين باكية ، قالوا : وما الوجوب يا رسول الله ؟ قال الموت ) ، فهل يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم- نهى الناس عن البكاء على موتاهم ، أم يقال : إن المقصود إنما هو نوع خاص من البكاء ، وهو النياحة ورفع الصوت .
فتلخص من ذلك كله أنه لا يوجد تعارض أبداً بين روايات تحريم البكاء وروايات جوازه ، ولا بين هذه الروايات والقرآن ، وأن البكاء المجرد على الميت مسموح به طبْعًا وشرعًا ، فهو رحمة في قلوب الرُّحماء ، وقد بكى أتقى الخلق وأخشاهم لله - صلى الله عليه وسلم- ، ولم يخرجه ذلك عن إيمانه ورضاه بقضاء الله وقدره ، وأن أي قول أو فعل يصاحب البكاء ، ويتنافى مع التسليم لله ، والرضا بقضائه ، ويظهر منه الجزع والتسخط ، فهو معصية وذنب عظيم ، وهو الذي جاءت فيه أحاديث النهي والوعيد والله أعلم